من السنن التي هجرها كثير من الأزواج ـ والسنن كثيرة ـ مشاركة الزوجة في أعمال البيت. فإنهم ظنوا ذلك تنزلا عن مرتبة القوامة, وامتهانا للرجولة, وإذلالا لنفوسهم (الأبية وذكورتهم!). ولم يعلموا لضعف عقولهم, وقلة مبالاتهم بمصالحهم أن ذلك من شيم الصلاح والدين, وأخلاق النبوة والولاية !! وعلامات حسن العشرة . وقد قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله, وأنا خيركم لأهله)
روى البخاري (باب من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة فخرج) (644) عن الأسود قال سألت عائشة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت : (كان يكون في مهنة أهله ـ تعني خدمة أهله ـ فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة)
والحديث رواه البخاري أيضا في كتاب الأدب! وابن المبارك في الزهد ووكيع في الزهد وأحمد في الزهد وهناد بن السري في الزهد!, وهو حقا أصل من أصول الأدب والزهد!!
)
)
وله ولأحمد من رواية الزهري عن عروة عن عائشة (يخصف نعله ويخيط ثوبه ويرقع دلوه)
وله من طريق معاوية بن صالح عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة بلفظ (ما كان إلا بشرا من البشر كان يفلى ثوبه ويحلب شاته ويخدم نفسه)
وأخرجه الترمذي في الشمائل والبزار, وقال وروى عن يحيى عن القاسم عن عائشة وروى عن يحيى عن حميد المكي عن مجاهد عن عائشة وفي رواية حارثة بن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة عند ابن سعد (كان ألين الناس وأكرم الناس وكان رجلا من رجالكم إلا أنه كان بساما)
قال ابن بطال: من أخلاق الأنبياء التواضع والبعد عن التنعم وامتهان النفس ليستن بهم ولئلا يخلدوا إلى الرفاهية المذمومة وقد أشير إلى ذمها بقوله تعالى وذرني والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا)
وقال العراقي في طرح التثريب في شرح التقريب (8/174): (أما خدمة أهله في الحاجات المختصة بهن فهو غير مراد في الحديث فيما يظهر ولا يمكن لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن السكوت عن ذلك والموافقة عليه, وقد رجح أصحابنا الشافعية في الزوجة التي يجب إخدامها أن الزوج لو قال: أنا أخدمها لتسقط مؤنة الخادم عني ليس له ذلك, وعللوه بأنها تستحي منه, وتعير به, وقال بعض أصحابنا: له ذلك. وبه قال أبو إسحاق المروزي, واختاره الشيخ أبو حامد .
وقال القفال وغيره: له ذلك فيما لا يستحى منه كغسل الثوب واستقاء الماء وكنس البيت والطبخ دون ما يرجع إلى خدمتها كصب الماء على يدها وحمله إلى المستحم .
فإذا قيل مثل هذا في الآحاد, فكيف في حقه صلى الله عليه وسلم, وفي الشمائل لأبي الحسن الضحاك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في صفته عليه الصلاة والسلام: ( متواضع في غير مذلة) قال ابن بطال: وفيه أن الأئمة والعلماء يتناولون خدمة أمورهم بأنفسهم وأن ذلك من فعل الصالحين) اهـ
ـ قال القرطبي في الجامع (10/145): (الرجل زوجته فيما خف من الخدمة ويعينها, لما روته عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكون في مهنة أهله فإذا سمع الأذان خرج وهذا قول مالك ويعينها وفي أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخصف النعل ويقم البيت ويخيط الثوب)
بل كان يشاركهن في أعمال المطبخ إن صح التعبير, كتقطيع اللحم مثلا . فقد روى الإمام أحمد في مسنده (6/94) وكتاب الزهد! بإسناد صحيح عن حميد بن هلال قال: قالت عائشة: أرسل إلينا آل أبي بكر بقائمة شاة ليلا فأمسكت وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قالت أمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطعت قالت: تقول للذي تحدثه هذا على غير مصباح) قال الشيخ الألباني في آداب الزفاف (): ( ليس في وجوب خدمة المرأة لزوجها ما ينافي استحباب مشاركة الرجل لها في ذلك إذا وجد الفراغ والوقت بل هذا من حسن المعاشرة بين الزوجين ) وقد جعل رشيد رضا هذا من حقوقهن على أزواجهن كما في كتابه (حقوق النساء في الإسلام) بل كان يعينهن في أمر تنظيف الأرضية أحيانا فقد روى أحمد (6/111) وأبو داود (3567)عن حميد عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادمها قصعة فيها طعام قال فضربت بيدها فكسرت القصعة قال بن المثنى فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى فجعل يجمع فيها الطعام ويقول غارت أمكم زاد بن المثنى كلوا فأكلوا حتى جاءت قصعتها التي في بيتها ثم رجعنا إلى لفظ حديث مسدد وقال كلوا وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وحبس المكسورة في بيته )والحديث صححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود. والذي أريدك أن تنتبه له في الحديث قوله: (فجعل يجمع فيها الطعام). وروي من حديث أبي سعيد الخدري أنه كان يقم بيته, وهو من أحاديث الإحياء التي لا أصل لها كما عند السبكي في الطبقات والعراقي في المغني.وعزاه اليافعي في مرآة الجنان إلى الترمذي ولم أجده عنده في السنن ولا في الشمائل!
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة. فدارك أولى بذلك, وأهلك أولى بصدقتك.
ومن لطيف العون أن تبادر إلى طي الثياب معها ـ وجلنا مقصر في هذه الناحية ـ فقد روى الدينوري في المجالسة (2015)عن بكر العابد قال كان لسفيان الثوري عباءة يلبسها بالنهار ويرتدي بها وكان إذا جاء الليل طواها وجعلها تحت رأسه وقال: ( بلغني أن الثوب إذا طوي يرجع إليه ماؤه) ورواه علي بن الجعد في مسنده عن مسدد قال: قال لي يحيى: كان سفيان يطوي ثيابه بالليل وقال لي: ( إن الثوب يستريح إذا طوي)
ولهذا لا تأنف ولا تترفع عن إعانة زوجتك في المطبخ أو غيره, تقطع لها اللحم, فإن لم يكن لحم فقطع لها البطاطس والخضروات ! وإن شئت فاطبخ لكما شيئا تمدحه لك زوجتك.فإن لطبخ الرجال خصوصية عندهن ! وكذلك لا تستكبر عن تنظيف أرضية الدار معها فإنه علامة تواضع وإيمان.وقد ورد ما يفيد وجوب تنطيف أرضيات الدور , فقد روى الطبري في الأوسط عن سعد بن أبي وقاص مرفوعا: ( طهروا أفنيتكم فإن اليهود لا تطهر أفنيتها)
وفي لفظ نسبه ابن القيم في زاد المعاد وابن مفلح في الآداب للبزار مرفوعا: (إن الله طيب... فنظفوا أفناءكم و ساحاتكم ، و لا تشبهوا باليهود، يجمعون الأكباء في دورهم) والذي وجدته عند البزار موقوف على سعيد بن المسيب,وفيه خالد بن غياس وهو آفته.وانظر الحديث وتخريجه في السلسلة الصحيحة لشيخ شيخنا الألباني (236)
والأفنية (جمع فناء وهو المتسع أمام الدار) من فيض القدير (4/271).والأكباء جمع كبى بكسر الكاف وهي الكناسة كما في الآداب لابن مفلح.وقد روى الديلمي في الفردوس عن أنس مرفوعا (ترفع البركة من البيت غذا كان فيه كناسة) والحديث ضعفه الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة (3410)
فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمكر بتطهير ما كان أمام البيت فأولى أن يفهم ذلك في أرضية الدار! والله أعلم.مع التنبيه إلى أن الأمر موجه للرجال دون النساء لأن الرجل يسهل عليه الخروج إلى الفناء بخلاف المرأة التي أمرت بالتستر ما أمكنها!
وما نقل عن السلف في ذلك ما رواه ابن سعد في الطبقات (6/188) وابن أبي شيبة في المصنف (7/146) والفسوي في المعرفة والتاريخ (2/328)وأبو نعيم في الحلية (2/116) عن الربيع بن خثيم (أنه كان يكنس الحش بنفسه قال فقيل له: إنك تكفى هذا , قال: إني أحب أن آخذ بنصيبي من المهنة) وروى ابن أبي الدنيا في الورع (ص115) عن أبي الوليد رباح بن الجراح قال: رأيت أبا شعيب أيوب بن راشد فما رأيت أحدا كان أورع منه كان يكنس حيطان بيته فإذا وقع شيء من حيطان جيرانه جمعه فذهب به إليهم)
ومن الطريف أنه كان يقال: (كان ثلاثة نفر في العرب في عصر واحد أحدهم آية في السخاء وهو حاتم الطائي والثاني آية في البخل وهو أبو حباحب والثالث آية في الطمع وهو أشعب كان طماعا وكان إذا رأى عروسا تزف إلى موضع جعل يكنس باب داره لكي تدخل داره!!! وكان إذا رأى إنسانا يحك عنقه فيظن أنه ينزع القميص ليدفعه إليه !!) ومن أفضل ما يكنس بيوت الله تعالى وقد صح أنه كان أسود يقم المسجد النبوي ويكنسه فمات ودفن ليلا وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم على قبره.
وفي مقالة (أربعون نصيحة لإصلاح البيوت) ضمن موسوعة البحوث والمقالات العلمية :
(نصيحة ( 22) : معاونة أهل البيت في عمل البيت
كثير من الرجال يأنفون من العمل البيتي ، وبعضهم يعتقد أن مما ينقص من قدره ومنزلته أن يخوض مع أهل البيت في مهنتهم . فإذا فعلنا ذلك نحن اليوم نكون قد حققنا عدة مصالح :اقتدينا برسول الله صلى الله عليه وسلم.ساعدنا أهلينا .شعرنا بالتواضع وعدم الكبر .وبعض الرجال يطالب زوجته بالطعام فورا ، والقدر فوق النار ، والولد يصرخ
يريد الرضاع ، فلا هو يمسك الولد ، ولا هو ينتظر الطعام قليلا ، فلتكن هذه الأحاديث تذكرة وعبرة !!)اهـ.
وقد ذكر القاضي عياض في الشفا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أيضا يعجن مع أهله والله أعلم ! ولا يبعد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد صح عنه أنه خبز في دار جابر كما في حديثه في قصة الخندق وفيه : (جئت النبي صلى الله عليه وسلم فساررته فقلت يا رسول الله ؟ ذبحنا بهيمة لنا وطحنت صاعا من شعير فتعال أنت ونفر معك فصاح النبي صلى الله عليه وسلم يا أهل الخندق إن جابرا صنع سورا فحي هلا بكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء . وجاء فأخرجت له عجينا فبصق فيه وبارك ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك ثم قال ادعي خابزة فلتخبز معي واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها ...الحديث) ويظهر أنه كان العجن من أعمال بعض الصحابة ,ففي الترغيب والترهيب للمنذري لأنه لما مات أبو هاشم بن عتبة رضي الله عنه (حصر ما خلف فبلغ ثلاثين درهما وحسبت فيه القصعة التي كان يعجن فيها وفيها يأكل...) وقرأتها بفتح الياء ولعلها بالضم فالله أعلم.
والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه كما في الحديث, وزوجته أولى, وقد صح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله فقال أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس. وانظر صحيح الترغيب والترهيب للألباني (2623) وزوج الرجل أولى من غيرها من الناس في أن ينالها حظ من نفع زوجها من إعانتها في البيت! والأحاديث في فضل قضاء الحوائج متكاثرة وانظرها في كتاب (قضاء الحوائج) لابن أبي الدنيا و(ثواب قضاء حوائج الإخوان) لمحمد بن علي النرسي.
ومن العجيب أن ابن مفلح جعل الترفع عن ذلك حمقا وتكبرا فقال في الآداب الشرعية: (كان عليه الصلاة والسلام يكون في بيته في مهنة أهله وغير ذلك من شدة تواضعه ومكارم أخلاقه وسيرته العالية صلى الله عليه وسلم بخلاف ما يفعله كثير من أصحاب النواميس والحمقى والمتكبرين مع اشتمال بعضهم مع ذلك على سوء قصد وجهل مفرط)
ومما يعين الرجل فيه أهله توليه غسل ثوبه. ولعل شراء غسالة بعد الادخار لثمنها ولو بعد ثلاث أو أربع سنوات,يكون خير ما تعينها به خصوصا إن كان عندكما ولد! واسأل مجربا. وقد روي عن بعض السلف كعمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يباشران غسل ثيابهما ,والله أعلم.